فن

سينما القاتل المأجور: القاتل بعيون المكان

5 من أشهر أفلام القتلة المأجورين، يميزها قدرتها على تأطير علاقة القاتل الحداثي بالمكان، كيف يطوع المكان لتحقيق مهمته، كيف تفرز أماكن بعينها القتلة..؟

future من اليمين، ملصقات أفلام: «Collateral»، «Léon»، و «In Bruges».

موعد في سامراء 

في عام 1933 كتب الروائي «سومرست موم» قصته الشهيرة «موعد في سامراء» التي تتحدث عن خادم تعثر في ملاك موت يبصره بنظرة تحمل مزيجاً من الدهشة والوعيد خلال مروره بسوق مزدحمة ببغداد.

استعار الخادم جواد سيده ليفر من قدره نحو سامراء، بينما ذهب السيد إلى سوق بغداد ليتأكد من قصة خادمه، ليجد الملاك واقفاً بعينين مندهشتين سيقول الملاك، إنه لم يقصد إفزاع الخادم إنما انتابته الدهشة وحسب لأن مكان قبض روح الخادم كان سامراء وليس بغداد!

تجسد القصة ببراعة حتمية الموت بوصفه مصيراً قدرياً لا يمكن الإفلات منه بحيل الهجرة لأن ملاك الموت لا يحده مكان ولا يمكن أن يفلت أثرك في سوق مزدحمة ببغداد أو صحراء مترامية الأطراف في سامراء.

لا يظهر ملاك الموت كثيراً في السينما، مثل الملاك الساقط «لوسيفر» أو ملائكة الرحمة، ربما لكونه لا يقدم وعوداً تثري الحبكة بصفقة فاوستية أو رحمة منقذة، إنما يحضر في نهاية الحبكة كتتمة نهائية لمصير أبطالها، لكن نجحت السينما بذكاء في خلق معادل حداثي له أكثر حيوية وبشرية وهو القاتل المأجور!

في تعليقه على فيلمه الأخير «Hitman» يقول ريتشارد لينكلاتر، إن القتلة المأجورين غير موجودين بالأساس ولو وجدوا سيكون حضورهم أكثر تعقيداً وأقل سحراً بكثير من الوهم الذي تغذيه السينما الأمريكية على مدار نصف قرن وأكثر.

يرى لينكلاتر أن السبب الأساسي لهيمنة هذا الوهم السينمائي هو أنه يناسب الثقافة الاستهلاكية الأمريكية التي تجيد تحويل كل شيء إلى سلعة تسبقها أمنية مستهلك باقتنائها حتى لو كانت الموت!

يحب المستهلك الأمريكي أن يصدق إمكانية أن يتحول الموت مثل كل شيء إلى سلعة في متجر يمكنه أن يختار من يريد قتله، ثم يأتي القاتل المأجور ليحقق رغبة العميل ويزور الضحية المختارة بوصفه ملاك موت حداثياً أقل قدسية يحقق الأمنية ويقبض الثمن.

المثير هنا أن ملاك الموت ذاك لا يخضع لسلطة إلهية ولا يعمل سلطة تنفيذية لقدر عادل إنما يخضع لسلطة المال؛ لأنه بينما لا يحتاج الملائكة للمال فالبشر يعبدونه بالتأكيد.

لكن الأقل إثارة أن ملاك الموت الحداثي لن يشبه قصة سامراء، فهو خاضع بفضل بشريته لشروط المكان، عليه أن يكون حرباء يتجسد كجزء من المكان ويخضع لقوانينه لكيلا تراه ضحيته قادماً أبداً.

يتتبع هذا المقال بعض أشهر أفلام القتلة المأجورين. في معظمها يسمي القاتل نفسه منظفاً أو متعاقداً، ليضفي على مهمته طابعاً عملياً استهلاكياً ينفي عنه قدسية التشابه علناً مع ملاك الموت، تاركاً لسحر الشريط السينمائي مهمة أسطرته سراً في صورة شيطانية تحمل هالة ميثولوجية تشابه هذا الملاك.

لكن ما يميز تلك الأفلام المختارة تحديداً هو قدرتها على تأطير علاقة القاتل الحداثي بالمكان، كيف يطوعه لتحقيق مهمته، كيف تفرز أماكن بعينها القتلة أو تصير انعكاساً لكينونتهم، وأخيراً كيف يكون القاتل أحياناً ضحية المكان وحدوده؟

تنتهي قصة «سومرست موم» نهاية مفتوحة تاركة لخيالنا القدرة على إكمال المشهد بملاك يطوي الطريق من بغداد لسامراء في لمح البصر ليؤدي مهمته، بينما تؤطر الأفلام التالية بطلها كملاك موت عالق في أماكن تروي حكايته أضعاف ما ترويها مهنته أو سلاحه.

Collateral: أن تقتلك المدينة

«هذه حقيقتنا، نحن ضائعون في الفضاء، أنا... أنت.. الشرطي القادم خلفنا،  نحيا على نقطة وسط ملايين المجرات، من سيلاحظنا؟»

— Collateral

في عام 2004 قدم المخرج الأمريكي مايكل مان فيلمه «Collateral» الذي يدور حول سائق الأجرة «ماكس» الذي يقود زبائنه بينما يحلم طوال الوقت بتأسيس شركته الخاصة التي ستحول سيارات الأجرة إلى خدمة ترفيهية تجعل الراكب يتلهف للبقاء بالسيارة بدلاً من بلوغ وجهته.

من اللحظة الأولى يمنح مايكل مان البطولة للمكان أو مدينة لوس أنجلوس، بألوان باردة بين الأسود والأزرق وإضاءة تعتمد على النيون ومصابيح عشرات السيارات التي لا تتوقف لأحد ولا تبالي إلا بوجهتها.

يقول مايكل مان:

تتمتع لوس أنجلوس وخصوصاً في الليل بتوهج أرجواني ثري بالاحتمالات. أي شيء يمكن أن يحدث.

لذلك لم يكن مستبعداً للسائق الودود «ماكس» أن يكون زبونه في نهاية نوبة عمل ليلية طويلة هو القاتل المأجور «فينسنت»، سيتولى ماكس مهمة إيصاله طوال ليلة كاملة لأداء مهامه الدموية، ليتحول السائق على مدار الحبكة من ضحيته إلى شريكه إلى عدوه الأخير.

مشهد من فيلم «Collateral»

تمنح المدينة المزدحمة الغطاء المثالي لفينسنت لارتكاب جرائمه، يقتل رجلاً ويلقيه من الطابق السابع، يقيد ماكس في السيارة ليمنعه من الهروب، وعندما يستغيث الأخير لا تأتي النجدة إلا في صورة لصوص يسلبون السائق المقيد نقوده، وعندما يتعرض فينسنت وماكس للإيقاف من شرطي يقبض فينسنت على زناد مسدسه استعداداً لاغتيال شرطي في طريق عام.

لا يقدم مايكل مان أكشن هزلياً تعوزه الواقعية لقاتل جريء لا يبالي بالشهود أو الزحام، إنما يقدم رؤية قاتمة لمدينة لا مبالية لن يلتفت فيها أحد لجريمة تحدث بجواره، ولو استغاثت ضحية فالأرجح أن ملبي الاستغاثة سيكون مجرماً وليس النجدة.

بينما تساعد المدينة بزحامها العدمي، الذي يؤطر عزلة أفراده ولا مبالاتهم عن النظر للآخر بجوارهم، القاتل على أداء مهمته فإنها تتحول من حليفه المكاني إلى رعبه الأمثل.

لا يخاف «فينسنت» الموت أو الشرطة أو الرب إنما يخاف لوس أنجلوس، فيقول:

أكره لوس أنجلوس، واسعة وغير مترابطة، 17 مليون نسمة تكاد تعادل اقتصاد دولة كاملة، كل مرة أقضي مهمتي وأتمنى مغادرتها سريعاً، سمعت يوماً عن رجل مات هنا بمترو الأنفاق، ست ساعات كاملة ولم يلحظه أحد... لم يلحظه أحد!

يتحدث فينسنت عن طفولته كصبي ينتقل بين بيوت الرعاية في غيبة أبيه السكير عن رعايته، لا تعدو طفولة فينسنت أن تكبر لتصير نظرة فلسفية بداخله تجاه الكون بأكمله، فالبشر ينتقلون من بقعة لأخرى بسيارات الأجرة أو الطائرات أو حتى من مجرة لأخرى بمكوك الفضاء. لكن لا تهم وجهتهم لأنهم هائمون بلا مركز أو مرساة، لأنه لا يوجد أب يرعاهم أو ينتظرهم أو حتى يلاحظهم. فالرب غير موجود، وكلنا ركاب في رحلة لن تنتهي لأنه لا توجد وجهة لها من الأساس.

يمنح هذا التصور فينسنت الشجاعة اللازمة لأداء مهنته لأنه ينزع عنها أي عبء أخلاقي، لا إله يلاحظه بالأعلى ليتوعده بعقاب أو مكافأة، يبدو مثل ملاك موت حداثي استعاض عن خطة الرب القدرية لقبض أرواح عباده، بمخطط بريدي يرسله أحدهم مع رزمة مال لقبض أرواح أعدائه.

لكن التصور ذاته يثير الرعب في أوصال فينسنت الذي تختبئ أسفل شخصيته القاسية، وملمس مسدسه البارد روح صبي قلق، ينتظر أباً لن يأتي وإلهاً لم يستجب لصلواته، في عالم بلا مركز أو إله، يتمنى فينسنت أن يلاحظه أحد. بينما لم تناسبه سوى مهنة رأسمالها ألا تلاحظك عينان قط.

ينتقد فينسنت بعدمية شرسة، سلبية ماكس الذي يحلم بتأسيس شركته لـ12 عاماً لكنه لا يزال سائق أجرة حقيراً في مدينة مليونية، هذا يجعل موته في ليلة حالكة مستحقاً، لأنه ضيع ألف ليلة قبلها من دون أن ينتهز فرصته ويحقق حلمه.

يمتلك ماكس الشجاعة في نهاية ليلة حالكة للضغط على دواسة الوقود ليقود قاتله إلى موت نهائي، وعندما تستمر المطاردة يضع ماكس رصاصة أخيرة في قلب القاتل المأجور وينقذ حبيبته.

يمنح مايكل مان نهاية الأكشن السعيدة بعداً أكثر فلسفية، عندما يختار أن يموت فينسنت في مترو الأنفاق، على مقعد بارد في عربة فارغة لتصير مخاوفه نبوءته، ينظر له ماكس بإشفاق فيخبره أن المشفى في المحطة القادمة فيقول فنسنت:

لا فائدة، رجل مات هنا بمترو الأنفاق، ست ساعات كاملة ولم يلحظه أحد... لم يلحظه أحد.

يموت فينسنت وحيداً، لم تقتله مهنته أو رصاصة ماكس بقدر ما قتلته لوس أنجلوس، المجاز المكاني عن رعب رجل من عالم بلا إله ومدينة بلا قلب، لن يلاحظنا فيها أحد، ولو كنا ننزف دماءنا الأخيرة.

killer: القتل مثل طرد أمازون يمكنه الوصول لمنزلك

«كل مدينة لها نغمتها، تستيقظ باريس ببطء عكس المدن التي تستيقظ على ضجيج السيارات مثل برلين ودمشق أو الهمهمة المستمرة في طوكيو»

— killer

عندما عاد السيناريست أندرو ووكر بعد سنوات من كتابته «se7en» ليكتب «killer» أفرد ورقتين كاملتين يحاول تفسير كيف نجح القاتل في نسخ الكروت الذكية لغرف الفنادق، عندها بحث المخرج ديفيد فينشر لمدة 11 ثانية على «جوجل»، ليقدم له ناسخة كروت ذكية يمكن شحنها في ساعات من «أمازون» بسعر 29 دولاراً لأي مكان بالعالم.

يقدم ديفيد فينشر القاتل المأجور في فيلمه «killer» في أشد صوره تعاقدية وحداثية، يقدمه قاتلاً متحرراً من رؤيته الأخلاقية المضطربة مثل قاتل فيلمه الشهير«se7en». لا يترك رسائل مشفرة ولا يعتمد أسلوباً فريداً.

قاتلنا يشتري أدواته من «أمازون» ويسكن في غرف B&B الشهيرة ويأكل في أوقات مراقبته من «ماكدونالدز».

يفتتح القاتل فيلمه بالحديث عن مهارته اللازمة لمهنته فيخبرنا بسخرية أنها ليست الذكاء لأن «غاري ريدجوي» سفاح غرين ريفر الشهير الذي قتل 49 امرأة لم يكن يجيد لفظ كلمة «قطة» حتى لو منحته حروفها، إنما تكمن مهارة القاتل في رهافته للمكان وقدرته على التخفي في زحامه.

كل مدينة تقدم نفسها في أزياء سكانها وأصواتهم، طوكيو صوتها همهمة وبرلين تقدم ضجيجها في أبواق السيارات وباريس تستيقظ ببطء متكاسل، وفي كل عاصمة عليه أن يواكب نغمة سكانها ووتيرتهم ليتخفى ويؤدي مهمته.

مشهد من فيلم «killer»

يبلغ افتتان «فينشر&ووكر» بأهمية المكان حد تحويل الفيلم إلى فصول يعنون الواحد منها باسم المدينة مثل فصل بعنوان «باريس» وآخر بعنوان «الدومينيكان»، لأن المكان سيمنحك مفتاح فهم كيف تحول القاتل في هذا الفصل لهيئة وأسلوب بعينه، لكونه يناسب المدينة تلك دون غيرها.

يردد القاتل طوال الوقت مانترا أو صلاة تقول:

التزم بالخطة.. قاتل فقط المعركة التي دفع لك لأجلها.. إياك والتعاطف.. اسأل في كل خطوة: ما مكسبي؟

يبالغ فينشر في تكرار تلك الصلاة لأن مسار الفيلم بأكمله يعاكسها، بعد فشل مهمته الأخيرة، سيعود القاتل ليجد منظمته قد حاولت اغتيال حبيبته، ليتعاطف بما يكفي لشن رحلة انتقام عابرة للحدود.

يقتل البطل القاتلة المأجورة التي تولت تأديب حبيبته، ويقتل محاميه ومدير تعاقداته، يستمر حتى يصل للعميل، الرجل الذي قام باستئجاره لمهمته الفاشلة، والذي دفع الأموال الكافية لعقابه.

يتحول لقاء الانتقام المشحون إلى لقاء بارد بين البطل وعميل لا يعرفه، يخبره العميل أن بينهما عشرات القنوات من التعاقد تجعله لا يعرف حتى اسمه وهيئته، وأن الأمر لم يكن شخصياً، وأن  قتله وحبيبته لم يكن سوى بند إداري يسمى: عملية تنظيف اعتيادية.

تستغرب المنظمة لأن القاتل حول الأمر لمسألة شخصية، ولم يستثمر مهاراته للاختفاء في أي مكان بالكوكب والبدء من جديد، خطيئة بطلنا أنه تحول من ملاك موت حداثي في شركة اقتصادية تعاقدية، إلى ملاك انتقام مفعم بمشاعر روض مسيرته طوال الوقت على ألا يصغي لها.

يقدم فينشر رؤية أكثر سوداوية من فيلمه «se7en» الذي يتحدث عن مدينة نيويورك الملوثة بالخطيئة مثل جوثام التي يمكن لمحقق أخلاقي تطهيرها من الخطايا السبع.

في «killer» فقد القتل الحيز المكاني الذي يجعل مدينة بعينها محط غضب الرب مثل سدوم وعمورة، حد استنفار بطل مثل قاتل «se7en» نفسه ليكون رسول تطهيرها، فالقتل فقد ثقل الخطيئة في عيون البشر وصار خدمة استهلاكية، عابراً للقارات مثل كل الشركات متعددة الجنسيات التي يستخدمها بطله في الفيلم لتسهيل مهامه.

ينهي البطل الفيلم بقوله إنه ليس من القلة كما تظن إنما من الكثرة لأن العولمة لم تجعل العالم فقط مكاناً موحداً، أواصره تعاقدية وعلاقاته استهلاكية إنما الخطيئة كذلك. وهذا يجعل القتلة جزءاً من النظام لا شذوذ عنه، يصعب أن يحد القتلة حيز بعينه كمدينة جوثام الفاسدة أو منشأة سجن عقابي.

الموت لن يأتي لك في صورة رجل متخف بزقاق مظلم في ليلة ممطرة مثل أفلام النوار القديمة، الموت لم يعد يحتاج إلى تهيئة مكانية، إنما خدمة اعتيادية وعالمية ستصلك حتى باب المنزل، لا يعدو الموت أن يشبه عامل توصيل «أمازون» وهو يقدم طلبية أنت فقط لم تطلبها إنما طلبها أحدهم عنك.

Léon: الفردوس مكان له جذور

«لمرة في حياتي، ماتيلدا، بات لي جذور»

— Léon

في فيلم «Léon» لا يظهر القاتل المأجور بطلاً عالقاً في علاقة بعينها مع المكان وحسب، إنما عالق كذلك في فترة زمنية بعينها وهي الطفولة.

يدور الفيلم حول القاتل ليون الذي تورط صبياً في الحب، وعندما قتلت حبيبته على يد أبيها لكيلا تتزوج فتى من عائلة فقيرة قام ليون بقتله ثم رحل على متن قارب إلى حي ليتل إيتالي في نيويورك؛ ليحيا في كنف عائلة مافيا. ستعيد تدوير ماضيه المروع ليصير مستقبله أيضاً كقاتل مأجور، لن يغادر المسدس يد ليون، ولن تغادر قدماه ليتل إيتالي.

تتجاور مشاهد القاتل الدموية بعويناته السوداء ومسدسه الطويل بفوهة كاتم الصوت مع مشاهد طفولية لصبي في جسد رجل، يشرب الحليب، ويضحك ببراءة وهو يشاهد فيلماً كلاسيكياً سعيداً بالسينما، بينما يحاول الترويح عن فتاة خائفة بتقليد صوت خنزير وهو يحمل دميته بيده. في مشاهده بمقهى المافيا، لا يفاوض ليون على أمواله بقسوة إنما يودعها ببراءة لدى رب عمله ويطلب مصروفاً يومياً لأجل احتياجاته مثل طفل مطيع.

مشهد من فيلم «Léon»

يبدو ليون مثل رجل لم يكتمل صباه أبداً، أجهضت طفولته وإشراقاته المراهقة لحدث عارض هو جريمته الأولى التي يعيد تكرارها مع كل عملية اغتيال جديدة، لكنه سيستعيد صباه من جديد عندما يقابل الطفلة «ماتيلدا» ويتولى حمايتها.

لا تبدو قصة حب بين رجل ناضج وطفلة عمرها 12عاماً مستهجنة لأن الفيلم حولها لقصة حب بين صبية بالعمر ذاته، ليون لم يغادر طفولته إلا بالجسد، خارج مهارته في القنص هو أكثر سذاجة منها، تتولى خداعه والتلاعب به، بعدما يفرغ من تعليمها تفكيك المسدس تزول هالته المرعبة ويتحول لتلميذ مطيع يهتز القلم في يده بينما تحاول ماتيلدا تعليمه الكتابة، يرتبك عندما تتحدث معه عن الحب والقبلات والجنس وتتورد وجنتاه بما لا يليق بقاتل مأجور.

يصير حي ليتل إيتالي مجازاً مكانياً عن حالة ليون العالق نفسياً في طفولته لا يغادرها، يسير في شوارع الحي بأريحية بثياب شاذة، معطف طويل، وقبعة وعوينات سوداء، لا تنسجم أبداً مع من حوله، لكن ذلك لا يهم لأنه يتجول في مساحته الآمنة التي ما إن يخرج منها إلى فندق بعيد حتى يرتبك في معاملة بسيطة مثل تسجيل نفسه نزيلاً.

مشهد من نفس الفيلم

بينما يمثل ليتل إيتالي مجاز النكوص لحالة قديمة تصير النبتة التي يحملها ليون في كل مكان مجاز كينونته الحاضرة، كائناً حياً بلا جذور، فقد حبيبته في وطن بعيد، ويحتاج إلى طفلة تشد يده لينتقل إلى عالم النضج، ليتحول إلى حامٍ أبوي لها، يموت ليون ليحمي ماتيلدا، وتنتهي قصته بعد أن قتل الحب روحه مرة وأحياها مرة أخرى.

يكتمل قوس حكايته بمعالجة مجاز المكان عندما تقوم ماتيلدا في النهاية بزرع نبتة ليون في بستان لتمد جذورها في فضاء أوسع من وعائها الضيق. لا أحد يعلم هل حياة ليون ستقود روحه إلى الجنة أم الجحيم لكن ربما الفردوس في حكايته لا يعدو أن يكون مكاناً آمناً خارج ليتل إيتالي، تمتد فيه جذوره وتنتمي، بعد سنوات من الشتات.

In Bruges: القاتل في المطهر

«ربما لا يعدو الجحيم، أن تقضي أبديتك هنا… في بروج!»

— In Bruges

يدور فيلم «In Bruges» حول القاتل المأجور «راي» الذي أفسد مهمته الأولى عندما قتل بالخطأ طفلاً يتضرع في الكنيسة.

في مهمته التالية يرسله رب عمله مع شريكه العجوز «كين» إلى مدينة «بروج» البلجيكية، في انتظار التعليمات اللازمة والضحية الجديدة.

يكره «راي» المدينة لدرجة الجنون بمبالغة لا يفهمها شريكه «كين»، يقف القاتلان في أحد متاحف المدينة أمام لوحة لشبح موت يحصل ديونه من الخطاة، بينما يشرف المسيح من عليائه على البشر ليحدد من سيذهب للفردوس ومن سيذهب للجحيم.

مشهد من فيلم «In Bruges»

يسأل راي شريكه عن المكان الثالث للخليقة، لمن ارتكبوا خطيئة عظمى تجعلهم محرومين من الفردوس لكنهم لم يمتلكوا النية لفعل تلك الخطيئة ليصيروا مستحقين للجحيم، يخبره شريكه «كين» عن المطهر، البرزخ بين الفردوس والجحيم.

ندرك أن راي لم يجاوز أبداً خطيئة قتله لطفل بالخطأ، وأن كراهيته لبروج لا تعدو كونها مجازاً مكانياً عن المطهر.

يحافظ المخرج مارتن ماكدونا طوال الفيلم على إبراز بروج مدينة في حالة حلم، كثيراً ما يغشاها الضباب، بينما تحيطها المباني الكنسية من كل جانب، مدينة يكاد الزمن فيها يتوقف كلياً، بينما الفردوس تمضي الساعات فيه كلحظات من متعة، والجحيم تمضي لحظاته كساعات من العذاب يموت الزمن في المطهر كلياً وهو الانطباع الذي أكده راي عن بروج كمدينة قاتلة بمواتها.

يكره راي المدينة لأنها تبدو على سعتها مثل حجرة اعتراف ضيقة عليه أن يستسلم فيها ويفصح عن ذنبه.

مشهد من نفس الفيلم «In Bruges»

يحاول راي قتل نفسه، لكن ينقذه صديقه كين، وعندما يدرك الرجلان أن رحلتهما لبروج هي رحلة أخيرة قبل أن يؤمر كين بقتل راي لأنه خالف كود المنظمة وقتل طفلاً صغيراً. تصير بروج مطهراً فعلياً وأخيراً إما أن ينجو منه راي للفردوس أو يودعها نحو الجحيم.

يقول المخرج مارتن ماكدونا، على لسان بطله مارتي في فيلم «Seven Psychopaths» إنه سئم طريقة هوليوود في تقديم قتلة مأجورين وسيكوباتيين في خلطة تجارية قوامها الدم والقسوة والمعارك، وإنه يريد أن يصيغ السمع لقاتلين مأجورين يقومون بمحادثة إنسانية هشة.

لا يعدو In bruges أن يكون مطهراً مكانياً وسينمائياً يستضيف شخوصاً مدانة في محاكمة شعرية بلا قضاة ولا محلفين، محاكمة قوامها محادثة حميمة في مكان يحيطهم بسكونه ويدفعهم بجنون لمساءلة أنفسهم، قبل أن ينقشع الضباب أخيراً ليتبينوا مصيرهم بالجنة أو النار أو المطهر بينهما.

No Country For Old Men: ملاك حظ قادم من اللامكان

«-هل ستطلق النار؟»

 -هذا يعتمد... هل تراني؟»

— No Country For Old Men

تدور أحداث فيلم «No Country For Old Men» المأخوذ عن رواية لكورماك مكارثي بالاسم نفسه في عام 1980 بولاية تكساس، حول صفقة مخدرات انتهت على نحو سيئ، ليستولي اللحام «لويلين موس» على النقود وينطلق قاتل مأجور في أثره لاستعادتها.

خلال إعداد الفيلم اتفق الأخوان كوين على فكرة واحدة، وهي أن القاتل المأجور في الحكاية لن نعرف موطنه أبداً، لن يظهر كرجل جاء من مكان بعينه، إنما جاء من المريخ أو بالأحرى من اللامكان!

صنعت المصممة ماري زيفيروس أزياءه ليبدو على حد تعبيرها مثل سمكة خارج الماء، كائناً يحيا بغير محيطه، ياقة قميصه عملاقة، حذاؤه مدبب بكعب ضخم لا يناسب أحذية تكساس، حزام بنطاله ضخم وغير عملي. يبدو القاتل في محاولة يائسة لمحاكاة ثياب أهل تكساس لكن كل أزيائه أكثر ضخامة ومبالغة. يبدو مثل كيان خارق متأله يحاول أن يكون إنساناً لكن ثوب بشريته ضيق لا يناسبه.

مشهد من فيلم «No Country For Old Men»

كافح الفنان خافيير بارديم لإخفاء لكنته الإسبانية، لكيلا يفضح لسانه موطناً افتراضياً لشخصية القاتل، بينما منحه الأخوان اسم «أنطون تشيغير» وهو الاسم الذي اختاره الروائي كورماك مكارثي في الرواية متعمداً اسماً غرائبياً لا يفصح عن إثنية أو قومية بعينها.

ربما يكون «أنطون تشيغير» أكثر الشخوص السينمائية تماثلاً مع فكرة ملاك الموت، فهو يحاول أن يحاكي سلوك البشر لكنه لا يشبههم، غرائبية ثيابه وملامحه وطريقة تصفيف شعره، تجعله بارزاً غير متخف، يصعب أن تراه دون أن تتذكره فضلاً عن أن تحيا من الأساس لتستعيد ذكراه.

بينما تقدم الحكاية أنطون قاتلاً مأجوراً إلا أن مهنته تبدو وسيلة لا أكثر ليمارس من خلالها فلسفته. يوقن أنطون أنه ليس بشرياً سيكوباتياً بما يكفي لكيلا يفهم عواطف الألم والخوف والحزن، لكنه لا يرى نفسه إلهاً كذلك، فهو لا يملك هدفاً بعينه ولا يحب البشر أو يكرههم، لا يراهم مسئوليته بالأساس، لذلك يقوم بقتلهم بأسطوانة قذف، تشبه الأداة التي يقتل بها المزارعون الخنازير المريضة. فالبشر ليسوا سوى أدوات لممارسة دوره.

لذلك تصير الحالة الملائكية هي الوسيط الأمثل ليتمثله كيان بلا شهوات كفاءة تامة دون هدف محدد، وبينما الملائكة تحتاج إلهاً يوجههم يقرر أنطون أن يضع كل مقدراته بيد ربة الحظ، ورمزها عملة في جيبه، تختار ضحيته وجهاً لها، سيحدد هل ستموت أم ستنجو؟

عندما يسأله رجل، هل سيقتله أم لا؟ يسأله أنطون:

هل تراني من الأساس؟

يبدو أنطون حذراً تجاه كل محاولة من البشر لجعله ملحوظاً أو مرئياً؛ لأن المحادثة وحدها كفيلة بخلق ندية لا يؤمن بها، فهو ملاك يسير مثل كرة البلياردو قد يصدم الجميع أو يتفاداهم، لكنه لا يحقق وصالاً معهم أبداً.

عندما يواجه أنطون ضحيته الأخيرة، ترفض أن تختار وجهاً للعملة، يغضب أنطون لأنه خادم لسلطة الحظ، لا يمكنه أن يقتل برغبته أو لذته لأن هذا سيبدو فعلاً بشرياً، يفرط أنطون في القتل لكنه لا يقتل أبداً في مخالفة لقوانينه، كملاك موت يخدم آلهة الحظ.

عندما يفصح أنطون عن لمحة من موطنه يقول إنه جاء إلى تكساس مثل تلك العملة في يده، تنتقل من جيب لآخر، ومن يد لأخرى حتى تصل لضحيتها، يصف أنطون حكايته البشرية بأنها تعادل حكاية عملة حظ بين الأيادي تحوم وتختار ضحاياها ربما قبل أن يبدأ الكون ذاته.

تبدو تكساس المكان المثالي لحكاية الفيلم ولبطولة أنطون تشيغير بلد الكاوبوي الذي حسم رجاله معاركهم دوماً بمبارزة حظ ومسدسات روليت دوارة، يمكن لبعض الحظ أن يجعلك القاتل أو القتيل.

لذلك يقول مأمور البلدة العجوز «إد»، إنه يفهم الموت كخطر يقابله كل يوم نتيجة مهنته، لكنه لا يريد أن يموت في مواجهة شر لا يفهمه، يبدو شر أنطون تشيغير شديد القسوة لا لدمويته أو لكفاءته إنما لخلوه من منطق يحكمه، فالكون برمته يدور بسرعة عجلة الطلقات في مسدس روليت صدِئ بيد رجل لا يؤمن سوى بكونه أداة بيد عملة، خياراتها نقش أو طرة.

يصير أنطون تشيغير أكثر تجليات القاتل المأجور ثراء في السينما لأنه يستعير من ملاك الموت، خشوعه لسلطة أكبر منه، لكنها سلطة عدمية بلا معنى ولا منطق، ويستعير من القاتل المأجور بشريته وكفاءته. وسهولة الحصول على خدماته. يصير تشيغير وسطاً بين ملاك الموت كرسول مقدس والقاتل المأجور كمقدم خدمات حداثي واستهلاكي. وهو ما يجعله الكابوس الأكثر ثقلاً لأنه ينتمي للامكان. خارج الثقافة وخارج الدين. مثل وجه آخر لعملة لا ترينا إلا نقشها.

يمكن أن تحيا بقوانين إيمانك، ويمكن أن تحيا بقوانين المال التي قد تنقذك يوماً من القاتل المأجور إذا ما منحته أموالاً أكثر من الأجر الذي سيناله لرأسك، ولكن إذا قابلت أنطون تشيغير سيخبرك ببرود قبل قتلك أن كل منظومة اتبعتها لم تنقذك أو بتعبيره:

إذا كانت القوانين التي تتبعها جلبتك إلى هنا فبماذا أفادتك تلك القوانين؟

# السينما العالمية # أفلام أجنبية # قوائم سينمائية

فيلم Joker: Folie à Deux: حكاية تقلع بلا أجنحة
فيكتور إيريس: العالم بقدم في الواقع وأخرى في الأحلام
You Can Count on Me: عبثية الموت وقسوته في حكايات لونرغان

فن